سقوط الفاشر: انهيار رمزي لهيبة الدولة

الخرطوم :بلو نايل بوست Blue Nile Post

الفاشر.. المدينة التي خنقها الصمت وسقط فيها ضمير العالم!!

 

بقلم: وائل عبدالخالق مالك

 

بتاريخ 25 أكتوبر 2025م سقطت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور في يد مليشيا الدعم السريع الإرهابية بعد حصار دام ما يقارب من عامين. كانت الفاشر آخر معاقل الجيش السوداني في الإقليم، وسقوطها لم يكن حدثاً عسكرياً فحسب، بل تحوّلاً سياسياً وإنسانياً غيّر خريطة الصراع في السودان.

 

لم تكن الفاشر مجرد مدينة بل كانت مركزاً مدنياً يحتضن مئات الآلاف من النازحين، ومؤشراً على ما تبقى من حضور الدولة في غرب البلاد.

بسقوطها انكشف هشاشة التوازن الداخلي، وتصدّعت أوهام الهدنة الإنسانية التي إدعت بعض القوى الإقليمية والدولية رعايتها.

 

من الناحية العسكرية، كشفت معركة الفاشر عن عطبٍ هيكلي في إدارة الحرب من حصار طويل دون إمداد كافٍ، وانقطاع الغذاء والدواء والوقود، وتشتّت القيادة الميدانية.

سيطرة مليشيا الدعم السريع على المدينة جعلتها فعلياً الطرف المسيطر على الإقليم بأكمله، ما يعني عملياً انحسار سلطة الدولة من دارفور.

أما سياسياً فقد مثّل سقوط الفاشر انهياراً رمزياً لهيبة الدولة، وعودة دارفور إلى وضع ما قبل اتفاق جوبا، حيث السلطة تُدار بواسطة فوهة البندقية. وتراجع موقع الحكومة في ملف دارفور، فيما تقدّمت قوى خارجية لتملأ الفراغ عبر المال والسلاح والدبلوماسية الناعمة.

 

لم تكن الفاشر معركة عسكرية بقدر ما كانت كارثة إنسانية مكتومة.

التقارير الميدانية من منظمات مستقلة، بينها هيومن رايتس ووتش ومشروع مراقبة دارفور بجامعة ييل، توثّق عمليات قتل جماعي واستهداف جماعات إثنية بعينها.

نصف السكان تقريباً من الأطفال، والمدينة بلا دواء أو غذاء أو مأوى. الأسوأ أن المؤسسات الدولية، وعلى رأسها برنامج الغذاء العالمي (WFP)، تقاعست عن إيصال المساعدات رغم كل التسهيلات الحكومية، بحجة الوضع الأمني.

وعملياً جرى خنق المدينة ببطء، تحت نظر العالم، حتى سقطت.

 

هذا الفشل الدولي لم يكن إدارياً فقط، بل شراكة سلبية في الجريمة فحين تُمنع الإغاثة عن المدنيين في منطقة محاصَرة، يصبح الجوع سلاحاً سياسياً.

 

التحقيقات والشكاوى المقدَّمة أمام محكمة العدل الدولية أظهرت بوضوح دوراً خارجياً في تغذية التمرد.

ففي وقت سابق الحكومة السودانية اتهمت الإمارات بتمويل وتسليح مليشيا الدعم السريع، ووصفَت ما يجري في دارفور بأنه إبادة جماعية مموَّلة.

ورغم أن المحكمة رفضت النظر في القضية لأسباب إجرائية، إلا أن مضمون الشكوى كشف شبكة دعم تمتد من الامارات إلى بعض دول الجوار، مروراً بممرات لوجستية مكشوفة أمام أجهزةالاستخبارات الإقليمية.

المجتمع الدولي من جهته لم يتحرّك بجدية، وغالبية الدول العربية والافريقية والغربية التزمت الصمت، وبعض المنظمات اكتفت ببيانات القلق المعتادة.

 

وهكذا، تحوّل الغطاء السياسي الخارجي إلى درعٍ يحمي التمرد من المساءلة، ويمنحه شرعية الأمر الواقع في الإقليم.

أما القوى التي تشكّل ما يُعرف بـ الرباعية الدولية بالإضافة الي الأمم المتحدة،والاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية فشلت في اختبار الحرب بالسودان لا سيما إختبار دارفور وتحديداً الفاشر.

 

بياناتهم اللاحقة بدت كأنها محاولة لتبرئة الذات لا حماية المدنيين. لم تُفعَّل العقوبات، ولم تُغلق خطوط التمويل، ولم تُرسل بعثة مراقبة فاعلة رغم المطالب المتكرّرة.

الأخطر أن بعض هذه الأطراف رعت وساطات سياسية تُساوي بين الدولة والتمرد، وكأن الانقلاب على مؤسسات الدولة مجرّد وجهة نظر.

بهذا المعنى، تحوّل الحياد الدولي إلى تواطؤ صامت، سمح بتكرار المأساة نفسها التي بدأت عام 2003 في دارفور، ولكن على نطاق أوسع وأشد قسوة.

 

الجرائم التي وقعت لا يمكن أن تمر بلا محاسبة. المطلوب الآن إنشاء منظومة ثلاثية للمساءلة:

1.    لجنة وطنية مستقلة بصلاحيات حقيقية لا رمزية، تضم قضاة ومحامين سودانيين، لحفظ الأدلة والشهادات قبل ضياعها.

2.    شراكة إفريقية فاعلة لتفعيل الآلية الإفريقية للعدالة الانتقالية، وتجنيب الملف التسييس الدولي.

3.    توثيق دولي مُحايد عبر مجلس حقوق الإنسان في جنيف، على أن يكون دعماً فنياً لا وصاية سياسية.

 

العدالة ليست ترفاً قانونياً بل هي الضمان الوحيد لبقاء السودان دولة موحدة لا مجموعة أقاليم تخضع لمن يملك السلاح أو الدعم الخارجي.

الدرس ممايحدث في الفاشر واضح ومفاده أن من يترك أمنه لوساطة الخارج يفقد قراره أولاً وسيادته لاحقاً.

 

على السودان أن يمسك بزمام أمره من جديد، بثلاث خطوات أساسية:

* توحيد الجبهة السياسية الداخلية: اتفاق وطني صريح على أن الحرب ضد التمرد هي دفاع عن الدولة، لا عن نظام أو شخص.

* إعادة هيكلة المنظومة الأمنية: دمج وتوحيد القيادات الميدانية، وضبط الحدود الغربية، ومنع تدفق السلاح والتمويل الخارجي.

* إطلاق مسار إنساني وطني: إنشاء هيئة سودانية مستقلة لتنسيق المساعدات، حتى لا تبقى أرواح المدنيين رهينة لمزاج المنظمات أو مصالح المانحين.

 

إن سقوط الفاشر لا يجب أن يُنظر إليه كهزيمة عسكرية، بل نتيجة لانقسام الجبهة الداخلية وضعف الوعي الشعبي الذي ساهم فيه الجيش والحكومة بالنصيب الأكبر.

يجب أن يدرك الناس أن حماية الدولة تعني حماية كرامتهم وحقهم في الحياة، ويتحول المجتمع نفسه إلى خط الدفاع الأول.

الحياد في لحظة الخطر ليس موقفاً أخلاقياً، بل مساهمة في سقوط ما تبقّى من وطن.

 

إن سقوط الفاشر هو مرآة تعري العالم والضمير الإقليمي والدولي:

* المنظمات التي فشلت في إنقاذ المدنيين ساهمت بصمتها في الجريمة.

* الدول التي موّلت التمرد تحت ذرائع سياسية تتحمل جزءاً من الدم.

* والمجتمع الدولي الذي اكتفى بالتصريحات أثبت أن الضمير العالمي انتقائي.

 

لكن رغم كل ذلك، لا يزال لدينا كدولة وكشعب فرصة.

إذا وحّدنا صفَّوفنا، وأمسكنا قرارنا بأيدينا، وفرضنا رؤيتنا على الطاولة لا من خارجها، فسنستعيد ما فقدناه لا بالوصاية الدولية، بل بالإرادة الوطنية.

الفاشر سقطت، لكن ما زال بالإمكان إنقاذ السودان واستعادة كل الأراضي لحضن الوطن.

mohamed

بلو نايل بوست هي منصة إخبارية محلية وعالمية تهتم بنقل وتغطية الأحداث بكل مصداقية وحيادية. تسعى المنصة لتقديم تقارير دقيقة وشاملة عن الأحداث الجارية في مختلف المجالات، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. يعمل فريق بلو نايل بوست على توفير معلومات موثوقة ومحايدة للقراء، بهدف توفير منصة إخبارية تساهم في زيادة الوعي والتثقيف في المجتمع. #بلو_نايل_بوست Blue Nile Post

مواضيع فى نفس السياق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى