أنيس منصور ينتقد محاولات الإمارات “لإصلاح” السودان
الخرطوم :بلو نايل بوست Blue Nile Post

الخرطوم… آخر امتحانٍ للعروبة، وأول دروس الكبرياء
بقلم: أنيس منصور
كانت صنعاء بالنسبة لي البداية الأولى لفهم المدن التي لا تموت، تلك التي تُعاند الخراب بابتسامةٍ من طينٍ وماءٍ ووردٍ.
وحين وصلتُ الخرطوم، شعرتُ بشيءٍ مألوفٍ ينهض في داخلي؛ كأنني رأيتُ في النيل ما كنتُ أراه في جبال صنعاء، وفي وجوه السودانيين ما كنتُ أراه في أزقتها القديمة.
وصلتُ إلى الخرطوم وفي صدري عاصفةٌ من الأسئلة، كأنني دخلتُ مدينةً تختبر حدود الصبر الإنسانيّ وتبتسم رغم الجراح. لم أكن أبحث عن قصةٍ إخباريةٍ عابرة، بل عن روحٍ تتسلّل من تحت الركام لتقول للعالم إنها ما زالت هنا، تقاوم وتتنفس وتنتصر.
هنا، في مفترق النيلين، يجلس التاريخ متكئًا على مائه الأزرق كشيخٍ غيور يروي للأبناء سيرة الكرامة. نيلها يجيء من الجنوب محمّلًا برائحة الغابات والأدغال، ثم يلتقي بأخيه في الشمال كعناقٍ بين ذاكرةٍ وحلم؛ عند هذا العناق وُلد السودان، وعنده يتجدد في كل مرة.
الخرطوم كتابٌ مكتوبٌ بالماء والعرق، سطوره نيلان، وفصوله تتبدّل كما تتبدّل المواسم. في هذه المدينة يسكن التاريخ جنبًا إلى جنبٍ مع العنفوان، وتجلس الكرامة في المقاهي إلى جوار التعب. من هنا مرّ الغزاة، ومن هنا خرج الثائرون، ومن هنا صاغ السودان ملامحه في وجه الزمان: هادئًا في صوته، جليلًا في صمته، عظيمًا في احتماله.
حين تمشي في شوارع الخرطوم القديمة تشعر أن الأرض تتكلّم، وأن كل حجرٍ فيها له ذاكرة. رأيتُ الأطفال يركضون حفاةً يضحكون رغم الحرب، ورأيتُ النساء يبعن الخبز بأعينٍ لا تعرف اليأس، ويغنين للوطن كما تغني الأمهات لأطفالهن في الليالي الباردة. رأيتُ الجنود يعودون من الجبهات مثقلين بالغبار، ولكن وجوههم تضيء كما السنابل ساعة الحصاد.
تحت سماء الخرطوم لا شيء يبدو عاديًا.
حتى رائحة البنّ في المقاهي الصغيرة تحمل نكهة البطولة،
حتى الغبار على الأرصفة يشبه رماد الحروب القديمة،
وحتى النيل – هذا الشيخ الذي لا يشيخ – يجري ببطءٍ كأنه يتأمّل أبناءه الذين ما زالوا يقاتلون ليبقوا فقراء في الجيب، أغنياء في الكبرياء.
في الأسواق القديمة، تمتزج روح إفريقيا بالعروبة في مزيجٍ لا يشبه غيره. يتحدث الناس بالعربية ولكن بوجدانٍ إفريقيٍ عميق، فتخرج الكلمات دافئةً، كأنها موسيقى من القلب.
الخرطوم مدينةٌ تُشبه النيل في مزاجها: هادئةٌ ومتسامحة، لكنها حين تغضب تجرف كل ما أمامها. في صباحاتها الندية تشبه صنعاء القديمة في بكريتها، وفي ليلها الطويل تشبه قصيدة المقالح عن مدينته الأولى.
ووسط هذا الجمال، يطلّ الاستفزاز من بعيد. دويلة تحاول أن تُعطي الدروس للسودان!
السودان الذي كان يزرع القطن حين كانت الإمارات تزرع الخيام،
ويصنع التاريخ حين كانت هي تصنع الإعلانات!
الإمارات اليوم تريد أن “تُصلح” السودان.
تريد أن تملي عليه كيف يعيش، وكيف يقاتل، وكيف يصالح نفسه.
دولةٌ لا يتجاوز عمرها عمرَ نخلةٍ في الجزيرة، تحاول أن تعلّم السودان – بلد الألف حضارة والنيلين – معنى الكرامة والسيادة!
هل رأيتم من قبل نملةً تُحاضر في فيلٍ عن فنون السير؟
السودان بلدٌ يشبه التاريخ حين يفيض: فيه النيل الذي عاش قبل النفط، والكرامة التي لا تُكرّرها الجغرافيا، وشعبٌ لا يعرف الانحناء إلا في الصلاة.
أما الإمارات، فخرجت من رحم الشركات وظنّت أن المال يمنحها روحًا.
إنها أغنى من أن تجوع، لكنها أفقر من أن تفهم.
تُرسل مرتزقتها وتظن أن الدم شأنٌ إداريٌّ يمكن تسويته في تقارير نهاية الأسبوع.
السودان، أيها السادة، ليس مولًا.
ليس رصيفًا من النفط، بل نهرٌ من الكرامة.
هنا لا تُباع السيادة بالتقسيط، ولا تُشترى المواقف بالدرهم.
في الخرطوم، يُقاتل الجيش والشعب والقيادة في صفٍّ واحد.
لا تسمع هنا لغة الانقسام، بل ترى العزيمة في العيون.
في الأسواق، في المدارس، في البيوت، الجميع يتحدث عن النصر القادم وكأنه موعدٌ مؤكد.
شابٌ قال لي وهو يبتسم: “نحن شعبٌ صبور، لكننا لا نُهزم.”
فأدركتُ أن هذه الجملة تختصر السودان كله: مزيج من الصبر والعناد، من الحلم والواقعية، من الحنين والتمرّد.
في الليل، جلستُ على ضفة النيل الأزرق.
كان الماء يعكس وجه القمر، والمدينة تلمع كالجرح القديم في جسد التاريخ.
تذكّرتُ صنعاء ودمشق وبغداد وكلّ المدن التي جُرحت، وقلتُ في نفسي:
الخرطوم اليوم هي آخر امتحانٍ للعروبة، وأول دروس الكبرياء.
السودان ليس سلعةً تُباع، بل ضميرٌ يرفض المساومة.
يحمل في قلبه نهرين من الكبرياء، وكرامةً أقدم من كل الأبراج التي بُنيت فوق الرمل.
لقد جئتُ إلى الخرطوم كصحفي، لكني خرجتُ منها كطالبٍ في مدرسة الحياة.
اكتشفتُ أن الكاميرا أضيق من النيل، وأن اللغة أضعف من هذا الشعب الذي يبتسم وهو يقاتل.
كنت أبحث عن تقريرٍ عن الحرب، فكتبتُ عن الحياة.
أنيس منصور